هذي بلادٌ لم تعد كبلادي .. فاروق جويدة
كمْ عِشتُ أسألُ أينَ وجهُ بلادي؟
أينَ النخيلُ؟ وأينَ دِفءُ الوادي؟
لا شيءَ يبدو في السماءِ أمامَنا
غيرُ الظلامِ وصورةِ الجلادِ
هوَ لا يغيبُ عن العيونِ كأنَّهُ
قدرٌ كَيَوْمِ البَعثِ والميلادِ
قدْ عشتُ أصرخُ بينَكم وأنادي
أبني قصوراً من تلالِ رمادِ
أهفو لأرضٍ لا تساوِمُ فرحتي
لا تستبيحُ كرامتي وعنادي
أشتاقُ أطفالاً كحبَّاتِ النَّدى
يتراقصون مع الصَّباحِ النَّادي
أهفو لأيامٍ توارَى سحرُها
صخبِ الجِيادِ وفرحةِ الأعيادِ
اشتقتُ يوماً أن تعودَ بلادي
غابَتْ وَغِبنا وانتَهَتْ بِبعادِ
في كلِّ نَجمٍ ضلَّ .. حلمٌ ضائعٌ
وسحابةٌ لبِسَتْ ثيابَ حِدادِ
وعلى المدى أسرابُ طيرٍ راحلٍ
نسيَ الغناءَ ....فصار سربَ جرادِ
هذي بلادٌ تاجَرَتْ في أرضِها
وتفرَّقَتْ شِيَعاً بكلِّ مَزادِ
لم يبقَ مِن صَخَبِ الجِيادِ سوى الأَسى
تاريخُ هذي الأرضِ بعضُ جيادِ
في كلِّ رُكنٍ مِن رُبوعِ بِلادي
تبدو أَمَامِي صورةُ الجَلَّادِ
لَمَحُوهُ مِن زمنٍ يُضاجِعُ أرضَها
حمَلَتْ سِفاحاً فاستباحَ الوادي
لم يبقَ غيرُ صراخِ أمسٍ راحلٍ
ومقابرٌ سئِمَتْ مِنَ الأجدادِ
وعصابةٍ سرقَتْ نزيفَ عيونِنا
بالقهرِ... والتدليسِ... والأحقادِ
ماعادَ فيها ضوءُ نجمٍ شاردٍ
ما عادَ فيها صوتُ طيرٍ شادي
تمضي بنا الأحزانُ ساخرةً بنا
وتزورُنا دوماً بلا ميعادِ
شيءٌ تكسَّرَ في عيوني بعدما
ضاقَ الزمانُ بثورتي وعنادي
أحببتُها حتى الثُّمالةِ بينما
باعتْ صباها الغضَّ للأوغادِ
لم يبقَ فيها غيرُ صُبحٍ كاذبٍ
وصُراخِ أرضٍ في لظى استعبادِ
لا تسألوني عن دموعِ بلادي
عن حزنِها في لحظةِ استشهادي
في كلِّ شبرٍ مِن ثراها صرخةٌ
كانتْ تُهروِلُ خلفَنا وتُنادي
الأفْقُ يصغُرُ والسماءُ كئيبةٌ
خلفَ الغيومِ أرى جبالَ سوادِ
تتلاطمُ الأمواجُ فوقَ رؤوسِنا
والريحُ تُلقي للصُّخورِ عَتَادِ
نامَتْ على الأفْقِ البعيدِ ملامحٌ
وتجمَّدَتْ بينَ الصقيعِ أيادي
ورفعتُ كفي قدْ يراني عابرٌ
فرأيتُ أمِّي في ثيابِ حِدادِ
أجسادُنا كانتْ تُعانِقُ بعضَها
كوداعِ أحبابٍ بلا ميعادِ
البحرُ لم يرحَم براءَةَ عمرِنا
تتزاحمُ الأجسادُ في الأجسادِ
حتى الشهادةُ راوغتني لحظةً
وأستيقَظَتْ فجراً أضاءَ فؤادي
هذا قميصي فيهِ وجهُ بُنَيَّتي
ودعاءُ أمِّي كيسُ مِلحٍ زادي
رُدُّوا إلى أُمي القميصَ فقدْ رأتْ
ما لا أرى من غربَتي ومُرادي
وطنٌ بخيلٌ باعَني في غَفلةٍ
حينَ اشترتهُ عِصابَةُ الإفسادِ
شاهدتُ من خلفِ الحدودِ مَوَاكِبَاً
للجوعِ تصرُخُ في حِمى الأسيادِ
كانَتْ حُشودُ الموتِ تمرَحُ حولَنا
والعمرُ يبكي والحنينُ ينادي
ما بينَ عُمرٍ فرَّ مني هارباً
وحكايةٍ يزهو بها أولادي
عن عاشقٍ هجرَ البلادَ وأهلَها
ومضى وراءَ المالِ والأمجادِ
كلُّ الحكايةِ أنها ضاقتْ بنا
وأستسلمتْ للصِّ والقَوَّادِ
في لحظةٍ سكنَ الوجودُ
تناثرتْ حولي مرايا الموتِ والميلادِ
قد كانَ آخرَ ما لمحتُ على المدى
والنبضُ يخبو صورةُ الجلادِ
قد كانَ يضحكُ والعصابةُ حولَهُ
وعلى امتدادِ النّهرِ يبكي الوادي
وصرختُ والكلماتُ تهربُ من فمي
هذي بلادٌ لم تعد كبلادي
ليست هناك تعليقات